بحـث
المواضيع الأخيرة
العربه المركونه
صفحة 1 من اصل 1
العربه المركونه
بسم الله الرحمن الرحيم
شعرت عربة القطار المركونة على السكة الجانبية بالملل، فلا أحد يهتم بها، والأطفال ابتعدوا منذ زمن عن نوافذها المحطمة، وعجلاتها التي هاجمها الصدأ، وكادت برودة الوحدة تسحقها، ولم يعد صفير القطارات المسافرة أو العائدة يثير فضولها، ولم تعد تحظى من الناس كباراً وصغاراً بأي التفاتة أو اهتمام، وعند هذه المحطة من الآلام لم يعد الصمت ممكناً، ولابد من التفكير في خطة مناسبة تخرجها من عزلتها..
لم تنم العربة ليلتها، فالخطط المحكمة تُعدّ في الليالي، حيث الجلبة بعيدة، والفضوليون نائمون، والقطارات مستريحة تتهيأ للانطلاق أو للعودة، والأطفال يحلمون برحلات يطوفون بها الكون الفسيح.
تحاملت العربة المركونة على آلامها، ودفعت عجلاتها الصدئة على الخطين المنحنيين، وعبرت الوصلة بعد أن عانت صعوبة في فتحها، ثم علقت حلقة الربط بالعربة الأخيرة في القطار، وتمنت ألا يلحظ أحد حركاتها، فيعيدها إلى سكة التقاعد التي لا تقل إيلاماً عن مستودع الخردة..
صفر القطار قبل الفجر، وصعد الركاب، وشعرت العربة بالرجفة، لا من البرد، ولكن من خوف انكشاف أمرها، ولم يلحظها أحد، وانطلق القطار فأحست براحة مؤقتة، لكن الركاب راحوا يتهامسون ويشيرون إليها، ويسخرون من اهتزازها، ثم يدققون النظر في عجلاتها ونوافذها، بينما أشار الأطفال إليها بإعجاب. لأنها تصمد رغم عاديات الزمن وهاريات الإهمال، وتبدل الفصول، وأنين الخطوط والوصلات، وتجرأ أحد الأطفال وعبر إليها، واكتشف أنها تهتز أكثر من العربات الأمامية، لكن اهتزازها الراقص أعجبه، فتمايل مع حركتها، وأعجب أطفال آخرون بتمايله فتبعوه، عندها شعرت العربة بالفرح، إذ تمكنت أخيراً من استعادة ثقة الأطفال وهي التي ظلت تتذكر لمسات أصابعهم الناعمة على مقابض أبوابها، وحافات نوافذها الكبيرة، وكلما زاد اهتزاز العربة، زادت حركة الأطفال، ثم تكاتفوا ورددوا أغنية حفظوها من أناشيد المدرسة..
قال صادق: لماذا تُرِكت العربة دون دهان؟
وأضاف مصطفى: أتوقع أن تكون مخصصة لنقل الأمتعة أو الحبوب
وعقب رائد: مظهرها يدل أنها كانت منسية، وأعيدت إلى الخدمة ثانية. أما فياض فقال: للجديد طرافته، لكن القطع القديمة لها نكهتها المحببة أيضاً.
أصغت العربة إلى حديث الأطفال الجدّي، وإلى سخريات الركاب، التي جعلت منها: حاوية قمامة، وقن دجاج متحرك، وفزاعة ووكراً للثعالب، ومستودع أعلاف، وعبّارة إلى الجحيم، ومرصد حراسة مهجوراً، وقارباً منسياً على الشاطئ، ولم تزعجها هذه الصور الحافلة بالكمد والتحجر، فتابعت نغمة الأنشودة، وشاركت الأطفال فرحهم، واندمجت معهم رغم وضوح صوتها الخشن المتلجلج، ورعشتها المتأثرة. وعبرت العربة والأطفال مع القطار فوق الجسر المعلق على النهر، ثم دخلت نفقاً طويلاً دون أن تخشى العتمة. وبعد ذلك تسلقت سفحاً تزنره الخضرة فتلاحقت أنفاسها، لكنها نسيت التعب والخوف.
رأت العربة في المحطات عربات كثيرة مركونة يعلوها الصدأ ويغلفها الصمت، تنام بخمول، محاطة بكومة القمامة والتراب، فكانت تنادي عليهن قائلة: استيقظن والتحقن بهذه الرحلة، فالقطارات السريعة مثل الحياة لا تمنح الفرصة لعربة خاملة أو راكب متأخر كي يلتحق بها.
فتحت العربة المركونة أجفانها ثم أطبقتها دون أن تعي ما قالته العربة المنادية، ثم عادت إلى نومها الثقيل، ولياليها الرطبة، وأحلامها البائسة، ولم يلتحق بالعربة سوى اثنتين من زميلاتها في المحطات الإحدى عشرة التي توقف فيها القطار، ففرحت بهما لأنها أخرجتهما إلى عالم الحركة والغناء والانطلاق..
رأت العربة الأشجار تتمايل بالتحية، والفلاحين يعملون بدأب، يدفعون رؤوسهم قليلاً ليمسحوا عرقهم، ويحاولون عدَّ العربات، وينتبهون إلى الزيادة، وتثير تساؤلهم العربات الثلاث الأخيرة، لكنهم يعودون إلى عملهم ثانية
وكانت العصافير تقترب، وكأنها تحاول أن تحط على رؤوس الأطفال، وتشترك معهم في فرحة الرحلة وبهجة الإنشاد. وكانت ترافق القطار وكأنها تحرسه أو تودع ركابه، ثم تعلو محلقة في الفضاء، وقلد الأطفال العصافير في حركاتها، ورفرفت أيديهم كالأجنحة، بينما مضى القطار على السكة الممتدة، وأطلق صفيراً طويلاً، استعداداً للاستراحة في المحطة الأخيرة..
ظل ناظر المحطة زمناً طويلاً يقص الحكاية، ويقول: لم نتلقَ أوامر بإضافة عربات مركونة إلى قطاراتنا، ولم تكن لدينا أوامر بإعادة مثل هذه العربات المثابرة إلى مواضعها، ويستغرب الابتسامات والملاحظات الساخرة التي تواجهه حين يعيد الحكاية شفهياً أو خطياً، على زملائه أو رؤسائه، وتتسع الابتسامات حين يقول: ما زلت إلى الآن أنتظر الأوامر!
أما العربة فقد سعدت بالرحلة، وبصحبة الأطفال التي تجعل الحياة عامرة بالحركة والبهجة، وتعيد إليها حقيقتها التي تغيب كثيراً ولا تعود إلا مع الأطفال الجسورين اللطفاء، ومع اهتزازات العربات الطموحة الصامدة
شعرت عربة القطار المركونة على السكة الجانبية بالملل، فلا أحد يهتم بها، والأطفال ابتعدوا منذ زمن عن نوافذها المحطمة، وعجلاتها التي هاجمها الصدأ، وكادت برودة الوحدة تسحقها، ولم يعد صفير القطارات المسافرة أو العائدة يثير فضولها، ولم تعد تحظى من الناس كباراً وصغاراً بأي التفاتة أو اهتمام، وعند هذه المحطة من الآلام لم يعد الصمت ممكناً، ولابد من التفكير في خطة مناسبة تخرجها من عزلتها..
لم تنم العربة ليلتها، فالخطط المحكمة تُعدّ في الليالي، حيث الجلبة بعيدة، والفضوليون نائمون، والقطارات مستريحة تتهيأ للانطلاق أو للعودة، والأطفال يحلمون برحلات يطوفون بها الكون الفسيح.
تحاملت العربة المركونة على آلامها، ودفعت عجلاتها الصدئة على الخطين المنحنيين، وعبرت الوصلة بعد أن عانت صعوبة في فتحها، ثم علقت حلقة الربط بالعربة الأخيرة في القطار، وتمنت ألا يلحظ أحد حركاتها، فيعيدها إلى سكة التقاعد التي لا تقل إيلاماً عن مستودع الخردة..
صفر القطار قبل الفجر، وصعد الركاب، وشعرت العربة بالرجفة، لا من البرد، ولكن من خوف انكشاف أمرها، ولم يلحظها أحد، وانطلق القطار فأحست براحة مؤقتة، لكن الركاب راحوا يتهامسون ويشيرون إليها، ويسخرون من اهتزازها، ثم يدققون النظر في عجلاتها ونوافذها، بينما أشار الأطفال إليها بإعجاب. لأنها تصمد رغم عاديات الزمن وهاريات الإهمال، وتبدل الفصول، وأنين الخطوط والوصلات، وتجرأ أحد الأطفال وعبر إليها، واكتشف أنها تهتز أكثر من العربات الأمامية، لكن اهتزازها الراقص أعجبه، فتمايل مع حركتها، وأعجب أطفال آخرون بتمايله فتبعوه، عندها شعرت العربة بالفرح، إذ تمكنت أخيراً من استعادة ثقة الأطفال وهي التي ظلت تتذكر لمسات أصابعهم الناعمة على مقابض أبوابها، وحافات نوافذها الكبيرة، وكلما زاد اهتزاز العربة، زادت حركة الأطفال، ثم تكاتفوا ورددوا أغنية حفظوها من أناشيد المدرسة..
قال صادق: لماذا تُرِكت العربة دون دهان؟
وأضاف مصطفى: أتوقع أن تكون مخصصة لنقل الأمتعة أو الحبوب
وعقب رائد: مظهرها يدل أنها كانت منسية، وأعيدت إلى الخدمة ثانية. أما فياض فقال: للجديد طرافته، لكن القطع القديمة لها نكهتها المحببة أيضاً.
أصغت العربة إلى حديث الأطفال الجدّي، وإلى سخريات الركاب، التي جعلت منها: حاوية قمامة، وقن دجاج متحرك، وفزاعة ووكراً للثعالب، ومستودع أعلاف، وعبّارة إلى الجحيم، ومرصد حراسة مهجوراً، وقارباً منسياً على الشاطئ، ولم تزعجها هذه الصور الحافلة بالكمد والتحجر، فتابعت نغمة الأنشودة، وشاركت الأطفال فرحهم، واندمجت معهم رغم وضوح صوتها الخشن المتلجلج، ورعشتها المتأثرة. وعبرت العربة والأطفال مع القطار فوق الجسر المعلق على النهر، ثم دخلت نفقاً طويلاً دون أن تخشى العتمة. وبعد ذلك تسلقت سفحاً تزنره الخضرة فتلاحقت أنفاسها، لكنها نسيت التعب والخوف.
رأت العربة في المحطات عربات كثيرة مركونة يعلوها الصدأ ويغلفها الصمت، تنام بخمول، محاطة بكومة القمامة والتراب، فكانت تنادي عليهن قائلة: استيقظن والتحقن بهذه الرحلة، فالقطارات السريعة مثل الحياة لا تمنح الفرصة لعربة خاملة أو راكب متأخر كي يلتحق بها.
فتحت العربة المركونة أجفانها ثم أطبقتها دون أن تعي ما قالته العربة المنادية، ثم عادت إلى نومها الثقيل، ولياليها الرطبة، وأحلامها البائسة، ولم يلتحق بالعربة سوى اثنتين من زميلاتها في المحطات الإحدى عشرة التي توقف فيها القطار، ففرحت بهما لأنها أخرجتهما إلى عالم الحركة والغناء والانطلاق..
رأت العربة الأشجار تتمايل بالتحية، والفلاحين يعملون بدأب، يدفعون رؤوسهم قليلاً ليمسحوا عرقهم، ويحاولون عدَّ العربات، وينتبهون إلى الزيادة، وتثير تساؤلهم العربات الثلاث الأخيرة، لكنهم يعودون إلى عملهم ثانية
وكانت العصافير تقترب، وكأنها تحاول أن تحط على رؤوس الأطفال، وتشترك معهم في فرحة الرحلة وبهجة الإنشاد. وكانت ترافق القطار وكأنها تحرسه أو تودع ركابه، ثم تعلو محلقة في الفضاء، وقلد الأطفال العصافير في حركاتها، ورفرفت أيديهم كالأجنحة، بينما مضى القطار على السكة الممتدة، وأطلق صفيراً طويلاً، استعداداً للاستراحة في المحطة الأخيرة..
ظل ناظر المحطة زمناً طويلاً يقص الحكاية، ويقول: لم نتلقَ أوامر بإضافة عربات مركونة إلى قطاراتنا، ولم تكن لدينا أوامر بإعادة مثل هذه العربات المثابرة إلى مواضعها، ويستغرب الابتسامات والملاحظات الساخرة التي تواجهه حين يعيد الحكاية شفهياً أو خطياً، على زملائه أو رؤسائه، وتتسع الابتسامات حين يقول: ما زلت إلى الآن أنتظر الأوامر!
أما العربة فقد سعدت بالرحلة، وبصحبة الأطفال التي تجعل الحياة عامرة بالحركة والبهجة، وتعيد إليها حقيقتها التي تغيب كثيراً ولا تعود إلا مع الأطفال الجسورين اللطفاء، ومع اهتزازات العربات الطموحة الصامدة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة مارس 12, 2010 11:55 pm من طرف Admin
» متى يبكى الشيطان
الثلاثاء فبراير 23, 2010 1:05 am من طرف أم كريم
» تم افتتاح المنتدي الثاني
الإثنين فبراير 22, 2010 11:31 pm من طرف Admin
» ما هو السمود؟ ولماذا هو محرم؟
الإثنين فبراير 08, 2010 11:29 am من طرف حفيدة عائشة
» بر الوالدين
الإثنين فبراير 08, 2010 11:26 am من طرف حفيدة عائشة
» بسكوت الكيك
السبت فبراير 06, 2010 7:42 pm من طرف حفيدة عائشة
» حلويات لذيذه جدا وشهيه جربوها
السبت فبراير 06, 2010 7:00 pm من طرف حفيدة عائشة
» الدوله الفاطميه
السبت فبراير 06, 2010 3:42 pm من طرف Admin
» تاريخ فلسطين
السبت فبراير 06, 2010 3:35 pm من طرف Admin